بقلم عبد الحق الريكي
« لكن التراجع لم يعد ممكنًا. لم يكن وارداً بالنسبة لي أن أضع السلاح »
من كتاب «عبد الكريم من منفى إلى منفى»
الجزء الأول
– جزيرة لاريونيون –
للكاتب : محمد لشقر مرابو
هناك كلمات تعود كأصداء في صمت الذاكرة.
الأخوة. الاحترام. الوفاء.
لا أدري إن كانت كلماتي أم كلمات ورثتها ممن سبقوني، لكنني أعلم أنها ما تزال تُبقيني واقفًا، بينما أشياء كثيرة بدأت تتسلل من ذاكرتي.
واليوم، في لحظة بدأت فيها ذاكرتي تضعف، أتمسك بما لم أكتبه يومًا من أجل النسيان، بل دائمًا من أجل التذكر. لم أكتب يومًا لأحكي الرواية الرسمية، بل كتبت لأُنقذ تلك التي لم يُسمح لها بأن تُروى. لأُعيد الأسماء لمن مُحيَت أسماؤهم. جدي، موح الحاج أفقير، مدفون تحت إسمنت النسيان. لكن ذكراه ما تزال حية، ما دمت أذكره، وما دمت أكتبه.
وهنا، تأخذ الأخوة معناها الحقيقي.
ليست فكرة مجردة، بل هي ذلك الرابط الذي يشدني إلى أهلي، إلى أهل الريف، إلى الجبال، إلى ذاكرة موجعة لكنها شامخة. الأخوة هي ما يجمعنا رغم صمت الدولة، رغم السجون، رغم المنفى والمرض. هي ما أشعر به حين يقول لي أحدهم، في مكان بعيد: “نضالك هو نضالي.”
أما الاحترام، فلا يُفرض. بل يُنتزع.
ومع ذلك، رأيت في هذا الوطن الذي أحببته رغم الجراح، كرامات تُداس، وأصوات تُسكت، ومناطق تُهمَّش. الاحترام يعني أن تُصغي. أن لا تسجن شباب الريف لأنهم طالبوا بالعدالة. أن لا تُجبرنا على الصمت حين لم يبقَ لنا غير الذاكرة نحتمي بها. الاحترام هو أيضًا احترام من سبقونا، احترام الموتى، احترام الحقائق — حتى حين تُزعج.
ثم هناك الوفاء.
ذلك الخيط الأحمر الذي أحمله منذ عقود. وفاء لقناعاتي اليسارية، رغم أن الأحزاب خذلتنا. وفاء لمن أحببت، ممن بدأوا يتوارون في ضباب الألزهايمر. وفاء لماضيَّ، لنضالاتي، لمنفاي، لأحزاني التي لم تُرثَ. وفاء، أولًا وأخيرًا، لذلك الصوت الداخلي الذي يدفعني للاستمرار في الكتابة — حتى حين ترتعش يداي.
في زمن تُستهلك فيه الكلمات كما يُستهلك البشر، أختار أن أبطئ الخطى، أن أتوقف لحظة عند هذه الكلمات الثلاث التي ساعدتني على رؤيتها بشكل آخر:
الأخوة. الاحترام. الوفاء.
ليست شعارات. بل حواجز تحميني. منارات. عهود.
لا أدري كم من الوقت تبقى لي للكتابة. لكنني أعلم أنني ما دمت قادرًا، فسأواصل.
لأجل من رحلوا.
ولأجل من هم هنا.
ولكي يتذكر الغد.
بقلم : الريكي عبدالحق
الرباط، 10 يوليوز 2025
