“ولكل فرد دور يلعبه في تطبيق الديمقراطية. ولن تكون هناك ديمقراطية حقيقية أبداً حتى تتاح الفرصة لكل شخص بالغ مسؤول وملتزم بالقانون…” تشينوا أتشيبي، أحد أعمدة الآداب الإفريقية
بقلم: عبد الحق الريكي
اليوم في المغرب وفي معظم أقطار العالم، هناك أزمة في الديمقراطية والأحزاب. هناك فرق كبير بين، مثلاً، فرنسا والمغرب. فرنسا شهدت في تاريخها عدة ثورات: بورجوازية عام 1789، وأخرى بروليتارية عام 1848والآن (2024) تشهد أحداثاً كبرى حيث يوجد أكبر حزب يساري، والبرجوازية تسعى لكسب الوقت لتفكيك هذا التحالف اليساري (يصعب في مقال من هذا النوع الحديث أكثر).
أما في المغرب، الذي لم يشهد قط ثورة بورجوازية، والذي كان مستعمراً (البعض يفضلون مصطلح “حماية”) من طرف فرنسا، فإنه من الصعب الحديث عن الديمقراطية الليبرالية كما في فرنسا. (هنا أيضاً يتحدث البعض عن تنوع الديمقراطيات ومسارات الدول).
ذكرت سابقاً أن الديمقراطية وصلت إلى طريق مسدود. وما حدث في أمريكا مع الهجوم على “الكابيتول”، وما يحدث مع الرئيس المنتخب “إيمانويل ماكرون”، يؤكدان ذلك. فلنتحدث عن المغرب، بلدي.
حين نتحدث عن تعثر “الديمقراطية”، نتحدث عن شيء مهم ألا وهو الأحزاب. الأحزاب لم تعد كما كانت من قبل، لذا هناك حديث عن “التنسيقيات” الجديدة التي تحاول تعويض الأحزاب والنقابات. بمعنى أنه لم تعد هناك “جدوى من الأحزاب”، إذ لم تعد تلعب دورها كما كانت من قبل، أي دور الوساطة. بمعنى أن “النظام” أصبح يواجه مباشرة “الجماهير”، دون أن يكون للأحزاب أو مجلس النواب أو الجماعات دورٌ مؤثر.
لنكن واضحين من البداية: أتحدث عن الأحزاب الوطنية، ولا أتحدث عن أحزاب “كوكوت مينوت”. الأحزاب الوطنية لم تعد كما كانت في الماضي. الجميع، اليوم، في أزمة: الأحزاب الوطنية وغيرها، أي الممثلة في البرلمان المغربي الحالي.
يقول البعض: “لقد أصبحت السياسة وسيلة للاغتناء…” وليس للعمل المقاولاتي الصعب. إنه “الريع” بمختلف أنواعه الذي يؤثث كل فضاءات الحياة في المغرب. حاول ملك المغرب ثني البعض عن استخدام “السياسة للاغتناء”، لكن دون جدوى حتى الآن.
يشير كتاب صدر في إسبانيا إلى أن الديمقراطية في هذا البلد كان الهدف منها هو خلق نخب جديدة تدعم الملكية الحديثة في إسبانيا، لأن النخب القديمة “الفرنكاوية” لم تعد صالحة. نفس الشيء بالنسبة للمغرب، “المسلسل الديمقراطي” الذي ظهر في 1976، كان الغرض منه خلق نخب جديدة تدعم “النظام”. كان مهندس هذا المسلسل الراحل الحسن الثاني، ولم تظهر نتائجه إلا مؤخراً… مع انقراض الأحزاب الوطنية وصعود أحزاب “القصر”…
كان الهدف (حسب تحليلي، ولكلٍ آراؤه حول هذا الموضوع وكل ما جاء في هذا المقال) هو خلق نخب جهوية تساند “النظام”، لأن هذه النخب كانت تساند المعارضة (خاصة الاتحادية) ومن بعد بعض الإسلاميين. لقد قضى “النظام” على الأحزاب الوطنية والإسلامية (يقول البعض بمساندة أطر من الداخل).
لدي ملاحظتان على هذا المستوى (ولكلٍ آراؤه):
1(هذا المخطط بدأ في سنة 1976، إذن هو بعيد المدى. لكن لما وصل إلى مداه، ظهرت عيوب أخرى متمثلة في الريع والفساد الذي ينخر النخب الجديدة وغياب الوسائط الحقيقية. هناك فرضية أخرى تتحدث عن ربح الوقت (1976-2024 أي ما يقرب من خمسين سنة)، كما يفعل الرئيس الفرنسي ماكرون. منذ ظهور النظام الرأسمالي، والبرجوازية تبحث عن ربح الوقت. في المغرب، أصبح اليوم، هناك تنظيمان محوريان: التنظيم العسكري وما يدور في فلكه، والتنظيم الإسلامي غير المنتمي للبرلمان، الذي استطاع أن يقاوم كل شيء، حتى الإغراءات ورغم القمع الكبير الذي يتعرض له مناضلو وأطره.
إن أزمة الأحزاب تتمثل أساساً في غياب الوسائط. فأهم حراك هو حراك الريف (دون انتقاص من باقي الحركات)، لم يجد “النظام” بدّاً من قمع واعتقال قادته الأساسيين. كل محاولات الوساطة المحلية والجهوية والوطنية فشلت. وبهذه المناسبة، لا يسعنا إلا المطالبة بإطلاق سراحهم وباقي المعتقلين. نؤكد على الخطوة الإيجابية المتعلقة بإطلاق سراح الصحفيين المعتقلين.
الكل مرتبط بالريع والعمل السياسي بدون أفق. تم القضاء على الحركة الوطنية، وإعلاء صوت الانتهازيين (بمعنى انتهاز الفرص للاغتناء)، الذين أصبحوا مع الوقت كتلة نافذة، بدون روح سياسية مسؤولة تراعي الوطن. ما يهم هؤلاء، سوى الاغتناء السريع، لذا يصعب لجمهم وهزمهم. لأن “المخزن” باتجاهه هذا (محاربة الحركة الوطنية وصعود “الانتهازيين”) يعمل دون أن يشعر على خلق تناقضات جديدة، يمكن أن تؤدي بالبلاد إلى الهاوية.
وكما قال تشينوا أتشيبي، من نيجيريا، الذي كان روائياً وشاعراً وناقداً: “ولكل فرد دور يلعبه في تطبيق الديمقراطية. ولن تكون هناك ديمقراطية حقيقية أبداً حتى تتاح الفرصة لكل شخص بالغ مسؤول وملتزم بالقانون…”. ما ينقص بلدنا هو “المسؤولية والالتزام بالقانون”، لذا نجد أن جل البرلمانيين في المحاكم، ورؤساء الجماعات، ورؤساء الأندية وحتى الأحزاب…
يقول “زكريا عبد الواحد”: “ظل أتشيبي يسعى في دأب، عبر الروايات التي أصدرها، إلى قراءة تجربة الاستعمار الأوروبي في أفريقيا وتصوير ما جرى في تلك القارة بعد رحيل هذا المستعمر، بعد أن سيطرت طبقة من الحكام والموظفين الأفارقة، حين مارس هؤلاء أقصى درجات التسلط، لدرجة أن حياة شعوب القارة باتت أكثر صعوبة مما كانت عليه في زمن الاستعمار”.
الكل في ورطة، السياسة في ورطة، والمؤسسات التمثيلية في ورطة أيضاً… نداء “الملك”، لم يجد صدى في الأحزاب ولا في مجلس النواب… “النظام” والحكومة في ورطة حقيقية، لا يعرفون ما يقدمون ولا يؤخرون… وللحديث بقية…
بقلم: عبد الحق الريكي
الرباط، الخميس 12 سبتمبر 2024